ثقافة وفنون

( فرانس كافكا ) والأدب العبثي رواية ” المسخ ” ..

( فرانس كافكا ) والأدب العبثي رواية " المسخ " ..

( فرانس كافكا ) والأدب العبثي
رواية ” المسخ ” ..

د.علي أحمد جديد

بدايةً ، ولمعرفة مصطلح “الأدب العبثي” فهو مذهب في الأدب بعد (التجريدية والسريالية) في الفن التشكيلي ، والعبثية مذهب بوهيمي يُستخدم في الرّوايات والمسرحيات والقصائد التي تركزّ على تجارب الشّخصيات من أبطال الأعمال الأدبية في الأوضاع التي لايمكنهم فيها إيجاد هدفٍ أصيلٍ في حياتهم . وغالباً ما تتمثل هذه الأوضاع بأحداثٍ وأفعالٍ لا معنى لها ودون مقدمات مطلقاً .
ويمكن تصنيف أعمال الأديب اليهودي التشيكي (فرانتس كافكا) كلها تحت مظلة ” الأدب العبثي ” أو “البوهيمي – الكابوسي” . وهنا استعراض لروايته الأشهر عالمياً والأحب إلى قلبه والتي كتبها بعنوان ” المسخ ” .
تدور أحداث رواية “المسخ” كما كتبها (فرانتس كافكا) ، المخلص ليهوديته التي كان يعاني منها في أوروبا ، حول بطلها (غريغور سامسا) الذي يعمل بائعاً ، ويعيل عائلة متوسطة في مدينة أوروبية شديدة الانتماء لأخلاقياتها المادية . ويتحوّل (غريغور) بشكل “عبثي” ومن غير مقدمات إلى (حشرة) ليواجه صعوبات كبيرة في التأقلم مع وضعه الجديد . وفي ذات الوقت ، تجتاح عائلة (غريغور) المشاكل النفسية والاجتماعية ، لاعتقاد الجميع – بل أمنياتهم – أن يكون (غريغور) قد مات ، لأنهم لم يستطعوا فهم واستيعاب وجوده وهو في حالته الجديدة ، فيما يجد (غريغور) صعوبة في التعامل مع حياته الجديدة ، ويشعر بالإحباط والعزلة ، ورغم ذلك يُصرُّ على التحسن بشكل تدريجي من خلال تصميمه على التأقلم مع حالته الطارئة ، حتى يشعر بالرضى وبتَقبُّل حياته المفروضة عليه بقسوة ، لكن بيئته المحيطة كان لها رأيها الآخر .
تُعتبر رواية “المسخ” عملاً أدبياً عميقاً برموزه ، تناول الكاتب من خلالها موضوعات متعددة ، مثل العزلة والانعزال والتحولات النفسية والاجتماعية ، لتكون من أكثر الأعمال الأدبية التي تثير الجدل وتترك أثرها العميق في القارئ المتلقي ، لأنها تحتاج إلى قراءة دقيقة وإلى تفسير هادئ ومعمَّق للوصول إلى فهم ما ترمز إليه أحداثها .
تميز أسلوب (فرانتس كافكا) في رواية “المسخ” بالتعبير الدقيق والمفصَّل ، وحمل في ثناياه العديد من الرموز التي تحتاج إلى التفسير لأنه اعتمد الوصف الدقيق للحالات النفسية والجسدية لكل شخصيات الرواية محافظاً على تميّز أسلوبه بالهدوء والروية وعدم التشويش .
تمت ترجمة رواية “المسخ” إلى العديد من اللغات ، وحظيت بشعبية واسعة ، وهو مادفع إلى اعتبارها من الأعمال الأدبية الرائدة في الأدب العالمي وتحديداً الأدب العبثي الحديث .
لاشك بأن رواية “المسخ” عمل أدبي فريد من نوعه ، يتحدّث عن قضايا الإنسانية العميقة والمعقدة ، ويعتمد الأسلوب الدقيق والتعبير المفصَّل في نقل المعاني والأفكار بشكل واضح وجلي .. وناجح في اعتماده أسلوب الأدب العبثي بامتياز .
أبدع (فرانتس كافكا) في رواية “المسخ” بوصف الآثار النفسية والاجتماعية التي ترتبت على هذا التحوّل الذي ينتهي بالبطل إلى الانتحار .
لأنّ المعاملة التي تلقاها (غريغور) من عائلته ، وزوّارهم ، ومحاولاتهم إخفائه ، ووصوله شعورهم بالخزي منه ، كان ذا رمزية كبيرة في تحليل سيكولوجية المجتمعات الأوروبية التي كانت في تلك الفترة لا تتقبل بسهولة وجود الأقلية اليهودية التي تعيش بينهم والتي تختلف عنهم في التفكير والسلوك وفي أمور كثيرة .
وكذلك حال الأفراد المهمشين في الفقر أمام جبروت رأسمالية البيئة التي يعيش فيها ، وحال كل الأقليات الدينية والثقافية ، وحتى أصحاب الإعاقات الذين هم من أبنائهم ، ويكشف في الرواية من خلال معاملة عائلة (غريغور) له فور مسخه عمّا تعتمره نفوس الآخرين من التصريح بالاختلاف والإساءة إلى أصحابه المختلفين .
وقد شكّل حدث تحوّل (غريغور) الطارئ انعكاساً للاغتراب الذي يعانيه الإنسان حين يقرر التخلص من العبودية والاستنزاف الذي كان يعيشه ، لأن (غريغور سامسا) كان يعمل كالآلة التي لاتتوقف من أجل إعالة عائلته التي كانت تعتمد عليه رغم امتلاك أفرادها المقدرة على الخروج للعمل وإعالة أنفسهم ، وذلك ما حدث فعلاً بعد مسخه . ورغم أن التحوّل الذي حصل كان انقلاباً من حالة وجودية إلى حالة وجودية مغايرة للبطل وللعائلة على حَدٍّ سواء ، إلا أنّه كان يمثل له تحرراً من المسؤولية التي كانت تسرق حياته كاملةً بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة .
في بناء شخصية (غريغور ) اعتبر (كافكا) أن البشر أنانيون من خلال تأكيده على أنّ الرحمة والاحترام مشروطان بمدى الفائدة المادية التي يمكن للآخرين الحصول عليها من الشخص ، لأن (غريغور) عندما كان يعيل أسرته كان يتلقى معاملة مختلفة عن تلك التي صار يتلقّاها بعد المسخ ، ولأن فائدته بعد المسخ باتت منعدمة لدى أفراد عائلته وباتوا يتعاملون معه كعالةٍ عليهم وكحِملٍ ثقيل غير مرغوب ،
واستنفرت فيه هذه المعاملة السيئة مشاعر الاكتئاب العميق ودفعته إلى الهروب بالانتحار ليتخلص من وضعه ، وليقدّم نفسه فداءً لعائلته التي لا يريد إرباكها وتكليفها أكثر مما تستطيع .
أي أنه لم يكفّْ عن العطاء حتى وهو راحل عن الذين أساؤوا إليه .
إن رواية “المسخ” عملٌ أدبيٌ تتيح تفاصيلها للقارئ فرصة التعرّف على الأساليب والتقنيات الأدبية المختلفة ، بدءاً بالوصف الدقيق وبالتعبير المفصل ، وصولاً إلى الرموز والمعاني الدقيقة . وذلك ما يستفز ملكات القارئ في النقد وفي البحث عن المعاني الخفية وعن الدلالات العميقة للنَصّ .
ولأن الرواية تتناول في أحداثها حالة شخص يتحول إلى (حشرة) ، فإن هذه الحالة الخيالية صورة عن العزلة وعن التمييز الذي كان يواجهه الفرد “اليهودي” في المجتمع الأوروبي ، وكذلك هي العلاقة المتوترة بين أفراد العائلة والعلاقة مع السلطة – ربّ العائلة الذي ينفق عليها وربّ العمل الذي يدفع الأجر – ، لأن تميز الشخصية الرئيسية في الرواية “غريغور سامسا” بالهدوء والخجل ، هو ما استنهض فيه السعي إلى تطوير شخصيته مع تطور حالته الجديدة التي انقلب إليها . ويمكن القول بأن تصرفات الشخصيات الثانوية في الرواية كانت تعكس وبكل صدق صفات المجتمع في التعامل مع من هم مختلفون فيه .
كما تعكس الرواية العديد من الحالات النفسية المعقدة ، كالشعور بالعزلة والانعزالية وإحساس القلق والخوف والتوتر ، فتوضح عمق هذه الحالات النفسية وما يمكن أن يترتب عليها .
ولا تهمل الرواية مناقشة المواضيع الاجتماعية ، فتستعرض أهمية العلاقات الاجتماعية ، والعائلية والسلطة ، والهوية الذاتية ، وتوفر الإمكانية لفهم هذه العلاقات وأثرها على الفرد والمجتمع .
تميزت رواية “المسخ” بأسلوب أدبي دقيق وبارع في استخدام الرمزية والتعبير المجازي ، وذلك ما سَهّل نقل المعاني والأفكار بشكل واضح وجلي ، وأعطى القارئ المجال الواسع والفرصة في خوض تجربة أدبية ممتعة وفريدة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى