مقالات منوعة

العدالة الغائبة

العدالة الغائبة

 

“العدالة الغائبة “

إعداد د٠حسن صالح الرجا الغنانيم 

************

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:–( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء )٠

وكذلك العدالة بدأت غريبة وغائبة في جميع بلادنا العربية والعالم وهذه حقيقة تعانيها أكثيرية شعوب العالم بما فيها شعوب الوطن العربي ٠

قال تعالى:–(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا). [سورة النساء، آية: 58]

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). [سورة النحل، آية: 90] ٠

لقد أرسل الله تعالى رسله وبعث أنبياءه لنشر العدل بين الناس، وإعطاء أصحاب الحقوق حقّهم من غير تفرقة، وجعله أساس الحكم والفصل، ومَدَح من يقوم به، فالعدل قوام الدين والدنيا، وسبب صلاح الناس والمجتمعات، فهو قيمة ضرورية في الدين الإسلامي ٠

فمن الواجب على المسلم أن يؤدي ما أوجبه الله عليه من الحقوق في الأقوال والأفعال والتصرفات؛ سواء في حقه جلّ وعلا وفي حق العباد؛ وقد عبّر الله تعالى عن العدل في مواضع كثيرة من كتابه الكريم بلفظة القسط، واستعمل كلمة المقسطين بمعنى العادلين٠

أما في هذه السنوات ومنذ ان يولد اي طفل في بلادنا العربية وغيرها ومن الغالبية الكادحة فإنه وللأسف الشديد يدرك أن ثمة فقدان للعدالة في وطنه والعالم ، بيد أن إحساس الأطفال بهذا الفقدان يمكن أن يظل مشوشا؛ فهم لا يعرفون منشأ انعدام العدالة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يظلون على أمل أن ثمة ما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب ويصحح الأمر. لكن الأمر، لسوء حظهم وحظنا جميعا، لا يتصحح لا في المستقبل القريب ولا البعيد، بل يزداد حدة. ومع الوقت تتولد قناعات عند المرء عن العدالة سواء المنشودة منها أو المفقودة، وهذه القناعات تتفاوت كثيرا من شخص لآخر وتدخل في تشكيلها عوامل كثيرة؛ فقد تكون قناعة امرئ: لا عدالة في العالم، لكن لا يمنع أن أسعى إلى تحقيقها على الأقل فيما يتعلق بي. وقد تكون قناعة آخر: لا عدالة في العالم، لكن إن لم تتحقق العدالة في هذا العالم فستتحقق لا محالة في العالم الآخر. أو: لا عدالة في العالم، لذا من السذاجة أن أكون عادلا أنا نفسي مع الآخرين.

إن انعدام العدالة هو من المواضيع الشائعة في مجتمعاتنا ويكاد لا يخلو منه حديث، وهو انعدام عدالة توزيع الثروات وتأليف القلوب بالتوزيع العادل والامين لها بين الشعوب٠

إن انعدام العدالة وتغيبها يوّلد غضبا كبيرا في القلوب؛ فالظلم يحرك ظلمات النفوس وشرورها القابعة بل ويبررها أحيانا؛ فلماذا أقبع أنا تحت مظلة التسامح والهدوء و«أفك الثم» فيما أرى الآخرين متنعمين بما وُهِبوا وما نَهَبوا؛ إن النفس تنتصر لنفسها ولا يجب أن ترضى بالضيم٠

فإن كنتَ في داخلك غاضبا على النهب والسلب؛ ظاهره وباطنه، ما علمنا منه وما لم نعلم، فربما من الجيد أن تسائل نفسك ما الذي يجعلك غاضبا فعلا؟ هل فعلا أنت مع محاربة الظلم وتسعى لتحقيق العدالة أم أنك تقول في نفسك فحسب اعطوني كما أُعطِيتم وإلا نهبتُ كما نهبوا؟ ليس من الغريب أن تجد من يتحدث معك بسعة وعمق في موضوع انعدام العدالة ويلقي باللوم على هذه الجهة أو تلك، وحين تُشعِره أنه أيضا، بطريقة أو أخرى، قام ببعض النهب «البسيط» فإنه يتخذ موقفا دفاعيا؛ يقول مثلا لاتقارن بمن ينهب ملايين وأراضي ووجهات عامة بمن ينهب ملاليم ونقود قليلة ! وربما تكون حجته هنا، إن حسنّاها قليلا، أن من يسرق كثيرا يضر الآخرين كثيرا أما من يسرق قليلا فإنه يضر الآخرين قليلا وقد لا يضرهم على الإطلاق؛ فشتان بين الاثنين. لكن من العادل والآمن القول إن العديد من الناس وهم ينقمون على انعدام العدالة في توزيع الثروات لا ينقمون على انعدام العدالة حقيقةً بل على أنهم لم يحصلوا على ما حصل عليه الآخرون، وأحيانا ينقمون على أنهم لم يسعفهم الحظ أن يسرقوا كما سرق الآخرون، فلا شك أن السرقة أو «أن تُوهَب لك الثروة بعطاء ظالم» لا يمكن أن يحدث إلا للشخص المناسب في المكان والزمان المناسبين، فالنقمة هنا، كما ترون، ليست على انعدام العدالة بل على انعدام الحظ! يكمن انعدام العدالة هنا في أنني لم أحظ بفرصتي في السرقة، وإن حظيتُ على الفرصة فإنها لم تكن فرصة ذات قيمة كبيرة٠

على العموم وأيا كان السبب الذي من أجله يستشيط الناس غضبا في بلادنا العربية وبعض البلاد الاخرى على انعدام العدالة في توزيع الثروات أو نهب الثروات، حقه وباطله، قانونيه وإجراميه، فإن هامش قدرة الناس على تحمل الظلم ليس كبيرا، وخصوصا حين تتأثر أرزاقهم ومعاشاتهم وتنخر الضرائب دخولهم ومدخراتهم من غير أن يكون لديهم الحق في اتخاذ بعض القرارات بأنفسهم. قد يكون البعض قادرين ما زالوا على أن يقولوا «ليتفحّموا بما أخذوا قي قعر الجحيم!» أو «لن يأخذوا أموالهم معهم إلى القبر!»، وهؤلاء البعض أغلب الظن أن يكونوا من طبقة لا تزال تعيش بكرامة ولا تزال لديهم القدرة على أن يصدوا أنفسهم من ارتكاب النهب بأنفسهم عن طريق قناعاتهم العادلة والمنطقية، أو المصطنعة والممنطَقة، فماذا لو انسحقت هذا الطبقة بفعل المد الغاشم من سوء الإدارة وسوء توزيع الهبات والأعطيات والثروات، هل سيكون في قدرتهم، أي هؤلاء البعض، أن يقفوا على الحياد ويتركوا انعدام العدالة لرب العباد كليّ العدل٠

إن سبب انعدام العدالة في بلادنا العربية وغيرها هو بسبب قساوة قلوب الأكثرية والتقليد الأعمى لأعداء الأمة والمداهنة والرياء والنفاق الإجتماعي والتأييد الأعمى لأصحاب الشان وبطانتهم الخاسئة الفاسدة ، والإقتصاد التنفعي وتعين أبناء الذوات في المراكز الإقتصادية الحساسة ، حتى أصبحت الامة ذات قلوب شتى تعيش غالبيتها مثل البهائم همها لقمة العيش والغريزة الجنسية٠

إن هناك محكمة ربانية تنتظر الجميع إنه يوم الفصل والحساب بين خلقه يوم القيامة إنه يوم العدل ٠

قال تعالى:–(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ۖ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ۚ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ). [سورة يونس، آية: 4]

وقال تعالى:–(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ). [سورة الأنبياء، آية: 47]

وقال تعالى:–(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ ۗ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). [سورة يونس، آية: 54]

وقال تعالى:–(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). [سورة يونس، آية: 47]٠

ولهذا كان من الذين يظلهم الله في ظله: “إمام عادل”. وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم من يعدلون في ولايتهم بالمكانة العالية والمنزلة الرفيعة عند الله تعالى حين قال:– “إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا”. ووعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بإجابة دعوتهم إن عدلوا في حكمهم وسياستهم لرعيتهم: ” ثلاثة لا ترد دعوتهم: –الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم ٠

والله ولي التوفيق ٠

وصلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين٠

**********

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى