النيرفانا Nirvana
بين البوذية والكتاب المقدس ..
د.علي أحمد جديد
(النيرفانا) في البوذية ، هي حالة نظرية مركبة ، حيث يهرب الإنسان من المعاناة في العالم ويدرك وحدته مع الكون المحيط . كما أنها تدل على حالة الخلو من المعاناة في النفي البشرية . وتُعتبَر الـ (نيِرفانا) هي حالة الانطفاء الكامل التي يصل إليها الإنسان بعد فترة طويلة من التأمل العميق المعروفة بتسمية (اليوغا) ، فلا يشعر الشخص الذي يمارسها بالمؤثرات الخارجية المحيطة به على الإطلاق ، أي أنه يصبح منفصلاً بذهنه وجسده عن العالم المحيط به تماماً ، وبذلك يتم شحن طاقات الروح للوصول إلى تحقيق النشوة ، والسعادة القصوى ، والقناعة وقتل الشهوات ، ويبتعد الإنسان في هذه الحالة عن المشاعر السلبية التي تنتابه نتيجة ظروف قاهرة وضاغطة من الاكتئاب والحزن والقلق وغيرها ، ويصل الكهنة البوذيون إلى حالة الـ (نِيرفانا) بعد فترات طويلة جداً من التأمل العميق . وهو الأمر الصعب جداً على قدرة ممارسته من عامة الناس ، وعلى الرغم مما يبدو عليه الأمر من أنه مجرد فكرة فلسفية ،
إلا أن الإنسان يستطيع الوصول في وعيه إلى (النيرفانا) ، و أن يتجاوز دورة إعادة التجسد من الوجود المادي إلى الوجود الروحي وإن كان بصورة غير وجودية .
والمعنى الحرفي لكلمة (نيرفانا) هو “الإنطفاء” أو “الإخماد” . ولكن عند التطبيق على حياة الإنسان الروحية يصبح ذلك المعنى أكثر غموضاً و تعقيداً . إذ يمكن أن تشير (النيرفانا) إلى القيام بفعل “الإخماد” سواء بالتدريج أو بسرعة ، كإخماد الشمعة مثلاً . لأن الهدف النهائي في فكر البوذية هو الوصول إلى حالة (النيرفانا) التي يتم فيها “إخماد” كل الرغبات والغرائز ، ويتحول فيها الإنسان إلى حالة روحية مختلفة ، تماماً كحالة الشمعة التي تحترق ثم تنطفىء ، لأنه في هذه الحالة لا يتم تدمير طاقة الشمعة عند إطفائها ، بل تتحول إلى نوع وجودي آخر من الطاقة . وهذا توضيح بسيط لما يحدث عندما تصل النفس البشرية المضطربة إلى حالة (النيرفانا) في المفهوم البوذي .
وفي النفس البشرية هناك ثلاث “نيران” يسعى الشخص البوذي إلى إخمادها كي يصل إلى حالة الطمأنينة المرجوة من الوصول إلى (النيرفانا) . وتلك النيران المتوقدة والتي تؤثر في طاقة النفس البشرية وتجعلها سلبية الانعكاسات هي :
“الشغف ، والكراهية ، والجهل” وأحياناً(الوهم) ، وهذا “الإخماد” في الكتاب المقدس في (عهده القديم) يحذر من الإنقياد وراء الشهوة/الشغف (رومية 6: 12) ، ويأمربإخماد كل ما هو أرضي في النفس ، بما في ذلك المشاعر الخاطئة (كولوسي 3: 5). كما تدين كلمة الله “الكراهية والجهل” المُتعَمَّدين ، إذ يوجد ما لايقل عن 71 مثلاً مختلفاً يتحدث عن “الجاهل” وليس أي من تلك الأمثلة هو إيجابي . و”الكراهية” أيضاً هي حالة أكثر سلبية كما صَوَّرها الكتاب المقدس في أسفاره :
“اَلْبُغْضَةُ تُهَيِّجُ خُصُومَاتٍ وَالْمَحَبَّةُ تَسْتُرُ كُلَّ الذُّنُوبِ” (أمثال 10: 12).
أما إخماد البوذية لـ “الشغف” فإنه يختلف كثيراً عن توجيهات الكتاب المقدس :
“الشَّهَوَاتُ الشَّبَابِيَّةُ فَاهْرُبْ مِنْهَا” (تيموثاوس الثانية 2: 22). لأن البوذية لا ترى في الخطيئة بأنها نوع من إنتهاك الأخلاقيات الإلهية ، بل توصي بكل تأكيد للتخلص من كل الرغبات والشهوات والغرائز ، وهو أمر فيه ماهو واضح من التناقض ، فلكي نتخلص من كل الرغبات ، يجب أن نرغب في زوالها (النية السابقة للفعل) . وهذه ليست فكرة مذكورة في الكتاب المقدس ولو بالتلميح ، لأن الله تعالى يعدنا أن
“يعطينا سؤل قلوبنا عندما نتلذذ به” (مزمور 37: 4) ..
والسماء في الكتاب المقدس ، هي على عكس (النيرفانا) لدى البوذية إذ أنها مكانٌ :
“تفيض فيه المسرات وتتحقق الرغبات”(مزمور 16).
إن مفهوم (النيرفانا) عند البوذية يتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس عن السماء حين يقول الكتاب المقدس بأننا :
“لا نستطيع أن نصنع طريقاً نصل به إلى السماء” (رومية 3: 20) .
فلا يمكن لأي قَدْرٍ من التأمل أو إنكار الذات أو الإستنارة أن يجعل الإنسان باراً أمام الله القدوس . بينما تعلّم البوذية أن الشخص الذي يصل إلى حالة (النيرفانا) يفقد كيانه الشخصي والوجودي ، حين ينبذ كل رغباته ، بل وحتى أنه يتخلى عن الشعور بجسده . أما الكتاب المقدس فيُعلِّم بأن السماء مكان فعلي وموجود ، وهذا المكان ليس حالة ذهنية ، حيث يحتفظ المخلوق البشري بكيانه الشخصي والوجودي ويسكن في جسد مصيره المحتوم هو الموت والزوال ، ولن يكون موجوداً في حالة ضبابية من الزهد الأبدي ، بل إنه يستمتع بتحقيق أهم رغباته الروحية في التواصل مع الله :
” تُعَرِّفُنِي سَبِيلَ الْحَيَاة ِ. أَمَامَكَ شِبَعُ سُرُورٍ . فِي يَمِينِكَ نِعَمٌ إِلَى الأبدِ” (مزمور 16: 11) .