لماذا تُطعم الصين 20٪ من سكان العالم باستخدام ما لا يزيد عن 9٪ من الأراضي الزراعية؟

بقلم : ريماس الصينية، صحفية صينية، CGTN العربية
قبل أكثر من 70 عاما، أي قبيل تأسيس جمهورية الصين الشعبية، كتب وزير الخارجية الأمريكي دين آتشيسون في رسالة إلى الرئيس الأمريكي ترومان مرفقة بالكتاب الأبيض بعنوان “الولايات المتحدة وعلاقاتها مع الصين”: “أول مشكلة واجهتها كل حكومة صينية في التاريخ الحديث كانت إطعام شعبها، وحتى الآن، لم تنجح أي حكومة في ذلك”.
بمعنى آخر، كان يعتقد أن الحزب الشيوعي الصيني لن ينجح في إطعام 500 مليون صيني في ذلك الوقت.
لكن اليوم، لا تكتفي الصين بإطعام 1.4 مليار نسمة، بل أصبحت أيضا دعامة رئيسية لأمن الغذاء العالمي. فما السبب وراء هذا الإنجاز الاستثنائي؟
تعزيز حماية الأراضي الزراعية ورفع جودتها
رغم أن مساحة الأراضي الصينية واسعة، إلا أن الأراضي الصالحة للزراعة – كالسهول – لا تمثل سوى حوالي 9٪ من إجمالي الأراضي الزراعية العالمية، بينما تقع على عاتقها مسؤولية إطعام نحو خمس سكان العالم. ومع التوسع الحضري والكوارث الطبيعية وبرامج إعادة التشجير، استمر تراجع مساحة الأراضي الزراعية.
ولمواجهة هذا التحدي، وضعت الحكومة الصينية الخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه وهو 1.8 مليار مو (حوالي 1.2 مليون كيلومتر مربع) من الأراضي الزراعية، ودعمت ذلك بإطار قانوني صارم.
وقد شدد الرئيس الصيني شي جين بينغ على أن الأرض الزراعية هي “شريان الحياة” للإنتاج الغذائي، داعيا إلى تطبيق سياسات الحماية الزراعية، وقال: “يجب أن نحمي الأرض الزراعية كما نحمي الباندا”.
وبالإضافة إلى الحماية، شرعت الصين في بناء مزارع عالية الجودة، عبر تسوية الأراضي غير المستوية وتجهيزها بالبنية التحتية اللازمة كالطرق والقنوات. ومنذ عام 2012 وحتى 2023، أنشأت الصين أكثر من مليار مو من الأراضي الزراعية عالية الجودة، أي ما يزيد عن نصف إجمالي الأراضي الزراعية. وتُنتج هذه الأراضي سنويا نحو 360 مليون مو (حوالي 240 ألف كيلومتر مربع) من القمح، و450 مليون مو (حوالي 300 ألف كيلومتر مربع) من الأرز، ما يشكل أساسا متينا لأمنها الغذائي.
ووفقا لمعايير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، فإن متوسط حيازة الفرد من الحبوب يجب ألا يقل عن 400 كغ، بينما يتجاوز في الصين حاليا 480 كغ، ما يجعلها تتخطى المعايير الدولية. وبهذا، لم تُطعم الصين شعبها فحسب، بل ساهمت أيضا في أمن الغذاء العالمي.
التكنولوجيا المتعددة في خدمة الزراعة الحديثة
بالإضافة إلى حماية الأراضي، ساهم التقدم التكنولوجي بشكل كبير في إنجازات الصين الزراعية. فقد أكد الرئيس شي ضرورة التركيز على عنصرين أساسيين: الأرض والبذور، داعيا إلى تطوير صناعة البذور الوطنية لتعزيز أمن الغذاء من المصدر.
وقد حققت الصين اعتمادا ذاتيا في العلوم الزراعية، بدءا من تحسين البذور ومكافحة الآفات إلى تقنيات الزراعة الدقيقة والري الذكي. وتظهر الإحصائيات أن مساهمة البذور الجيدة في زيادة الإنتاج تصل إلى نحو 45٪. ومن عام 2004 حتى 2023، حققت الصين 20 عاما متتالية من وفرة المحاصيل. وفي عام 2024، تجاوز الإنتاج الغذائي 1.4 تريليون جين لأول مرة.
كما تسارعت ميكنة الزراعة؛ إذ بلغ إجمالي القدرة الميكانيكية الزراعية 1.1 مليار كيلوواط، وبلغت نسبة الميكنة الشاملة لزراعة وحصاد المحاصيل 74٪. وفي المناطق الأساسية، أصبحت زراعة الأرز والقمح تعتمد كليا على الآلات.
وأصبحت الزراعة الذكية اتجاها جديدا. فالمتر المربع الواحد من الصوبات الزراعية يعادل خمسة أضعاف إنتاج الأرض المكشوفة، أما “مصانع النباتات” فتحقق دورة زراعة للخضروات لا تتجاوز بضعة عشر يوما. كما ظهرت شركات خدمات زراعية توفر للمزارعين خدمات متكاملة، تشمل الزراعة الدقيقة، والتسميد الذكي، والمكافحة الجوية للآفات.
وتتوسع الصين في تطبيق تقنيات مثل الإنترنت للأشياء، والبيانات الضخمة، ونظام بيدو للملاحة، ما يدعم الانتقال إلى الزراعة الرقمية والحديثة.
اهتمام الدولة المستمر بالزراعة
كان الرئيس الصيني شي جين بينغ يعيش 7 سنوات في الريف بمنطقة يانآن في مقاطعة شنشي، حيث عاش مع الفلاحين، وأكل معهم، وعمل إلى جانبهم. ومن هناك بدأت علاقته العميقة مع المزارعين وفهمه العميق لقضايا الريف والزراعة.
ولهذا، فإن رؤيته ومبادراته في مجال “القضايا الثلاثة المتعلقة بالريف” (الزراعة، المناطق الريفية، والفلاحين) تنبع من تجربة واقعية وتترجم إلى سياسات ملموسة وفعالة.
وباعتبار الصين دولة زراعية تقليدية، لطالما أولى الحزب الشيوعي الصيني أهمية كبيرة لقضايا الريف. ومنذ عام 2004، يخصص “الوثيقة المركزية الأولى” من كل عام لقضايا الزراعة والريف، واستمر هذا التقليد لأكثر من 21 عاما.
رؤية مستقبلية للزراعة الصينية
إن قوة الصين تبدأ من قوة قطاعها الزراعي. واليوم، تسير البلاد نحو تحقيق هدفها المتمثل في التحديث الزراعي بحلول عام 2035، وبناء دولة زراعية قوية بحلول منتصف هذا القرن. وهذا الهدف لا يدعم فقط التنمية الوطنية، بل يعزز مساهمة الصين في حل أزمة الغذاء العالمي.
وتسعى الصين إلى تحقيق نموذج زراعي حديث يجمع بين القوة الإنتاجية، والتكنولوجيا المتقدمة، والمرونة العالية، والتنافسية الدولية، مع مراعاة ظروفها الوطنية الخاصة دون تقليد أعمى للنماذج الغربية.
وبينما تستمر الصين في الابتكار وتحسين سياساتها الزراعية، فإن زراعتها ستبقى مصدر أمل للعالم، ليس فقط لإطعام شعبها، بل أيضا لتعزيز الأمن الغذائي العالمي وبناء مستقبل خال من الجوع وأكثر مرونة.