المثالية ..
د.علي أحمد جديد
لايستخدم مصطلح “المثالية” في الفلسفة فقط ، ولكن يتم استخدامه في العديد من السياقات اليومية أيضاً ، والمتفائلون الذين يؤمنون بأن حسن النية على المدى الطويل ، غالباً ما يُسمّون بالمثاليين للاعتقاد بأنهم مكرَّسون لعقيدة فلسفية ، أو بسبب نظرتهم للحياة بشكل عام . وقد يكونون في الواقع موضع شفقة أو حسد ، لعرضهم نظرة ساذجة للعالم وعدم انتقادهم فلسفياً على الإطلاق حتى في الفلسفة نفسها . يتم استخدام مصطلح “المثالية” بطرق مختلفة ما يجعل معناها معتمداً على السياق والتمييز بين الاستخدام الوصفي أو التصنيفي للكلمة . وعلى الرغم من أن هذه الاستخدامات المختلفة تحدث في بعض الأحيان مع بعضها البعض فإنه يتم توثيق استخدامها الوصفي بشكل أفضل من خلال الانتباه إلى العدد الكبير من “المثالية” المختلفة التي تظهر في الكتب المدرسية وفي الموسوعات الفلسفية ، بدءاً من المثالية الميتافيزيقية للمعرفة والجمالية عن المثالية الأخلاقية . كما يمكن للفرد أن يجد المزيد من الفروقات ، كالفرق بين المثالية وبين الواقعية ، أوالفرق بين المثالية الذاتية وبين المثالية الموضوعية والمطلقة ، وحتى أكثر التوصيفات في غموضها كالمثالية التأملية أوالمثالية المتعالية . وغالباً ما يتم تحديد معنى مصطلح “المثالية” بما يعتبر نقيضه في معناه ، وبالتالي فإن المثالي هو الشخص غير الواقعي ، ولا المادي ، ولا حتى التجريبي . وبالنظر إلى حقيقة أن الكثيرين يريدون التمييز بين الواقعية وبين المادية أوالتجريبية ، فمن الواضح أن يكون التفكير في معنى “المثالية” مُحدَّدَاً بما يُقصَد بمعارضته ويؤدي إلى مزيد من التعقيد وإلى الانطباع بأن وراء مثل هذه التوصيفات تكمن بعض النوايا الجدلية .
ويمكن تعريف الشخص المثالي بأنه شخص لديه أفكار وقيم ومبادئ ، ويتم تحديد تلك المبادئ ، الجيدة منها والسيئة من حيث السلوكيات والقيم المستفادة ، أو من حيث العادات والتقاليد في البيئة التي ينتمي إليها الشخص ، فهناك الطالب المثالي ، والأم المثالية ، وغير ذلك من القيم المعروفة في المجتمع الذي يعيش الشخص في بيئته . وفي ترجمة كلمة “المثالية” إلى اللغة الإنكليزية ، فإنها ستكون “Idealism” وليست الكمالية التي ترجمتها “Perfectionism” لأن البعض يخلطون بين المفهومين ، إذ أن الكمالية تعني الإيمان بأن الكمال في الروح والخلق موجودان في الحياة ، وحتى يصل الإنسان إلى الكمال يبدأ في تحديد أهداف يصعب تحقيقها ، ويمكن أن تكون غير واقعية بسبب الظروف المحيطة به ، وهذا بالتأكيد يجلب للشخص الحزن والإحباط إذا لم يحقق هدف الوصول إلى الكمالية المنشودة . ولأن كل سمة من سمات الشخصية تؤثر على الأخرى ، فإن بعضها سيكون إيجابياً بينما يكون البعض الآخر على النقيص في سلبيته ! وهنا يكون التساؤل عن المثالية ، وعن مدى تأثيرها في الشخصية والارتباط بين المثالية بين والكمالية أوالإبداع . فالشخص المثالي يفضل دائماً المشاعر السامية مثل الحب والاحترام ، لأنها مشاعر غير حسية تتماشى مع تعريف المثالية ، فيبدأ المبالغة في احترام الأشياء والناس على حَدٍّ سواء ، ودائماً مايبحث عن الأشياء المتميزة وغير الشائعة أو المتداولة ، وإذا لم يجد ما يبحث عنه فإنه يقع بخيبة الأمل ، ويصبح إدراكه للوضع أكثر صعوبة لأنه يعتقد بأن المثالية هي الفضيلة القصوى .
ومن المُمكن أن تتحول المثالية والكمالية إلى سحابة تعيق رؤية صاحبها لتقييم إبداعاته ومنجزاته ، وبالتالي يتملكه الإحباط المؤدي إلى الإعاقات النفسية ، والتي تتنوع بين الضعف والاكتئاب ، مما يؤدي إلى نقص الإنتاجية والتوقف عن الإبداع ، حتى الوصول إلى الكراهية تجاه نفسه وبالتالي إلى الشعور بعدم الكفاءة أو الجدارة أو الأهمية ، وهو مايدفع إلى اعتقاد البعض أن إبداعه هو ما يعطيه القيمة لنفسه ، وبمجرد أن يبدأ الدوران في تلك الحلقة المفرغة، فإنه سيستمر إلى ما لا نهاية . ودائماً مايضع الشخص المثالي لنفسه المعايير العالية وهو مايرتبط بميله إلى تقييم نفسه وانتقادها بشدة ، مما يجعل للشخص المثالية صفاتها الإيجابية والسلبية ، لأن هذه الصفات تختلف بين شخص وآخر ، حيث أن المثالية تنقسم إلى أقسام عديدة منها المثالية الصحية ، ومنها المثالية غير الصحية .
والخصائص التي تميِّز الشخصية المثالية (الصحية) هي تقدير الذات المرتفع إذ يضع الشخص المثالي الصحي لنفسه أهدافاً عالية ، ولكن من الممكن تحقيقها ، لأنها ليست بالأهداف المستحيلة ، ولأنه يسعى لتحقيقها ، وهو ما يخلق لديه شعوراً بالرضا والثقة بالنفس واحترام الذات
لقدرته على الأداء بكفاءة وعلى الموازنة بين الوقت والطاقة اللازمين للوصول إلى الهدف المحدد بإحساس عالٍ بالأولويات لأنه يعرف أولوياته والأشياء التي تهمه ، وهذا مايدفعه لأن يعطي الكثير من وقته لأولوياته حتى يستمتع بمحصّلة ما كان يطمح في الوصول إليه ويسعى لتحقيقه ، أكثر مما كان يفكر في تكلفة النجاح والوصول . ودائماً مايحاول الشخص المثالي(الصحي) تقديم أداء متميز لتحقيق مستوىً عالٍ في كل ما يفعل ، وإذا حدث أن ارتكب خطأ ما فإنه يتعلم من أخطائه ولديه القدرة على تجاوز تلك الأخطاء ورميها خلفه حتى لا تكون عائقا في طريقه . ولأنه مسؤول عن أخطائه التي لم تُيسّر له المهام حسب الخطة الموضوعة ، فإنه يرى الأمر برمته وتتضح له الصورة كاملة لدراسة الأمور الخارجة عن إرادته والتي أدت إلى ما حدث ، ويدرك بأن هناك أمور واحداث لا يمكن السيطرة عليها ، مما يجعله يشعر بخيبة الأمل .
بينما يضع صاحب الشخصية المثالية غير الصحية لنفسه أهدافًا متعددة وكبيرة ، لكنه غير قادر على تحقيقها .
فيتنافس باستمرار مع الآخرين على أفضل المراتب ، محاولاً أن يحافظ على نفسه من الشعور بالفشل ، ولا يتغلب على خيبات الأمل بسهولة ، ويشعر أن الأخطاء التي يرتكبها كارثية ولا يمكن التغلب عليها ، كمايتمسك بالطريقة التي يؤدي بها مهامه ويعتمد أسلوباً معيّناً في أداء مهامه ، لأنه يؤمن بأن ذلك ماسيقوده إلى النتائج التي يريدها ، ولا يحب التفكير بطرائق أخرى
لأنه يصب اهتمامه على الشكل النهائي للمنجزات أكثر من التركيز على ما يمكن تعلمه من عملية الإنجاز نفسها ، وهو مايسبب عدم تنفيذه المهام بأفضل طريقة .
ولايمكن لصاحب الشخصية المثالية أن يكون جذّاباً ورائعاً ، لأنه لايكون على درجة من الإيجابية في الواقع ، وتعتبر شخصيته واحدة من الاضطرابات النفسية التي تحتاج إلى العلاج لأنها شخصية واسعة تظهر بوضوح في رغبة الفرد الشديدة وسعيه الدائم للكمال وللخلوِّ من الأخطاء والعيوب ، وتترافق هذه الرغبة مع تقييمٍ عالٍ ونقدٍ دائمٍ للذات التي تجتاحها المخاوف من تقييمات الآخرين . كما تدفع المثالية إلى الاهتمام والسعي لتحقيق المُثُل أو الأهداف غير الواقعية ، وهو ما ينتج عنه العديد من المشاكل والاضطرابات النفسية كالاكتئاب وتدني تقدير الذات ، وصولاً إلى الميول الانتحارية في بعض الحالات المتقدّمة . وقد لوحظ مؤخّراً كما بيّنت الدراسات النفسية أنّ السعي المحموم للكمال والمثالية يزداد انتشاراً ، خاصّة بين فئات المراهقين والشباب . ويخلط الكثيرون بين “المثالية” وبين “الإنتاجية العالية” باعتقاد أن الشخص المثالي يحقق إنتاجية عالية ونجاحات كبيرة ، غير أنّ ذلك مخالف للواقع تماماً ، لأن المعروف عن أصحاب الشخصية المثالية بأنهم أقلّ إنتاجية ، ويواجهون صعوبة في الوصول إلى نتائجهم “المثالية” ، وحتى أنهم يعجزون في كثير من الأحيان عن تحقيق نتائج “مقبولة” ممّا ينعكس بشكل سلبي على أدائهم وعلى رضاهم عن أنفسهم . ويتميّز بها أصحاب الشخصية المثالية بأنهم :
1- مبدأ الكل أو لا شيء في التفكير حيث يتشابه صاحب الشخصية المثالية وأصحاب الإنتاجية العالية في أنهم يتفقون بوضع أهدافٍ كبيرة ويعملون بجدّ كبير على تحقيقها . لكن أصحاب الإنتاجية العالية يشعرون بالرضا بعد قيامهم بعملهم الذي يحققون من خلاله نتائج ممتازة حتى ولو لم يتمكّنوا من تحقيق هذه الأهداف . بينما يكون أصحاب الشخصية المثالية غير راضين ولا يقبلون بأقلّ ممّا يكون مثالياً بالكمال التام ، بالنسبة لهم ، وإن تحقيق أي شيءٍ أقلّ ولو بقليل يعدّ فشلاً ذريعاً يخجلون منه لأنهم ينتهجون أسلوب
“الكل أو لا شيء”
في عمق تفكيرهم ، بمعنى إمّا أن يسير كلّ شيء كما يريدون وإمّا فإنه الفشل المريع !!.
2 – يتميز أصحاب الشخصية المثالية بأنهم انتقاديون جداً لأنفسهم والغير أكثر بكثير من الأشخاص الطبيعيين . ففي الوقت الذي يشعر به الشخص الطبيعي بالتباهي و بالتفاخر والرضا عن إنجازاته ، ويدعم الآخرين الساعين مثله لتحقيق أهدافهم ، نجدُ صاحب الشخصية المثالية يركّز بشكل رئيسي على تضخيم الأخطاء والثغرات والانشغال بمواطن النقص والضعف ولا يستطيع ملاحظة أيّ ايجابية في الأعمال المنجزة وهو ما يجعله يصدر الأحكام القاسية والاحكام الأكثر قسوة على نفسه إذا كان الفشل نتيجة ماقام به .
3- الشعور الدائم بالخوف من الفشل في تحقيق الأهداف وبالإحباط من الشعور بالرغبة وبالشغف الكبيرين نحوها مع فقدان الاستمتاع بالخطوات التي يبذل فيها كل جهده وطاقته في السير نحو هذه الأهداف ، لأنه يسعى إلى الكمال المستحيل ، ويواجه الكثير من الصعاب التي يختلق وجودها في طريقه .
4 – ويكون لصاحب الشخصية المثالية معاييره غير الواقعية ولا يضع أهدافاً منطقية ، ففي الوقت الذي يستطيع فيه الشخص الطموح ذو الإنتاجية العالية أن يضع أهدافاً كبيرة ويحققها مستمتعاً بالمضي إلى الأبعد منها ، يضع المثالي لنفسه أهدافاً غير واقعية وغير قابلة للتحقق ، الأمر الذي يجعل رحلته نحوها تعيسة بائسة ودربه مليئة بالعقبات والفشل .
5- التركيز على النتائج .. ففي الوقت الذي يستمتع فيه أصحاب الإنتاجية العالية والأشخاص الطبيعيون بالطريق نحو أهدافهم أكثر من استمتاعهم بتحقيق الهدف نفسه أحياناً ، فإن صاحب الشخصية المثالية ينظر إلى النتيجة النهائية ولا شيء غيرها ، وينشغل بالقلق وبالخوف الدائم من الفشل مما يفقده الاستشعار بالطريق نحو القمة .
6 – ويسيطر الإكتئاب خوفاً من الفشل عند المثاليين ويبدون أقلّ سعادة بشكل عام من الأشخاص الطبيعيين . ذلك لأنّ الأشخاص الطموحين وأصحاب الإنتاجية العالية قادرون على الوقوف مجدّداً بعد أي فشل أوخيبات أمل تواجههم ، في حين أنّ المثاليين يُغرقون أنفسهم في بحر من الأحزان السلبية ويدمنون جلد الذات إذا فشلوا في الوصول إلى أهدافهم غير الواقعية في التحقق .
7- وقد يبدو من الغريب أن يلجأ صاحب الشخصية المثالية إلى الكسل والتأجيل في أداء أعمالهم ، نظراً لأنّ هذه السمة تؤدي إلى تخفيض وتقليل الإنتاجية ، لكن الواقع أن الشخصية المثالية أكثر ارتباطاً بالكسل نتيجة خوفهم الشديد من الفشل ، ويقلقون من القيام بشيء ما دون أن يكون كمالياً و مثالياً الأمر الذي يشلّ قدرتهم على الإنجاز ويحول دون قيامهم بأيّ شيء ، ويزيد الفشل من شعورهم بتأنيب الضمير والخوف وذلك مايغرقهم بالكآبة والهموم ويسجنهم في حلقة مقفلة من الكسل والخوف وقلة الإنتاجية .
8 – ولأن أصحاب الشخصية المثالية يعتبرون أنّ أيّ إنجاز أقلّ من المثالي هو فشل ذريع، فإنهم يميلون لاتخاذ المواقف الدفاعية على الدوام. ويعتبرون أي نقد يُوجّه إليهم هجوماً يهدف إلى تدميرهم ، في حين أنّ الشخص الطبيعي قد يرى في النقد معلومة قيّمة تساعده على تحقيق الأداء الأفضل مستقبلاً .
9 – وغالباً مايكون أصحاب الشخصية المثالية أكثر قسوة على أنفسهم مما هم الأشخاص الطبيعيون ، وبالتالي فإنهم يكونون على الأغلب أقلّ سعادة، وأصحاب تقديرٍ متدنٍ للغاية بحق انفسهم . وكثيراً ما يميلون للانطواء على ذاتهم ويكونون منعزلين ووحيدين لأن طبيعتهم الانتقادية وجمُودهم يبعدهم عن الآخرين . وهو ما يؤدي إلى تدني تقديرهم لذواتهم ولكل مايقومون به من الاعمال والانجازات .
ولمعالجة الهوس بالكمال والمثالية فإن الاعتراف بوجود المشكلة هو نصف الحلّ ، لأن الإعتراف بوجود شعور غير مرغوب يولِّد الإرادة ، والتفكير على هذا النحو يسهّل عملية التغيير ، لأن تغيير التصرّف الذي يقتنع صاحبه بسوئه أسهل بكثير من تغيير الطبائع والسمات الشخصية . وأنه من الجميل سعي الفرد للتطوّر والتحسين المستمر ، ولكن ليس من الحكمة أن يُغرِقَ نفسه في السعي إلى الكمال لدرجة توقفه عن التقدّم والتطور والرضا بالقدرات التي يمتلكها وبما يستطيع انجازه بهذه القدرات .