مقالات منوعة

قلق الموت

قلق الموت

قلق الموت


..
(Death Anxiety)
د.علي أحمد جديد

صحيح أن كل إنسان يشعر بقلقٍ ما تجاه أمور تواجهه ويعيشها ، ولو كان ذلك (القلق) الذي ينتبه بدرجاتٍ متفاوتة بين شخص وآخر .. لأن (القلق) بطبيعته شعور إنساني بالعصبية أو بالانشغال أو بالانزعاج . وقد ينشأ أيضاً بسبب الاضطرابات النفسية بما في ذلك (اضطراب القلق المتعمّم) أو (اضطرابات الهلع) أو (أشكال الرهاب) . وأقسى أنواع القلق والأكثر انتشاراً هذه الأيام هو مايسمّونه (قلق الموت) والذي يعتبرونه نوعاً من أنواع (القلق) المتعلق بفكرة الموت . ويمكن التعرف إلى (قلق الموت) بوصفه شعور الشخص بالخوف أو بالرعب عند التفكير في حالة الموت .
كما يختلف (قلق الموت) عن (النيكروفوبيا) التي تلخّصُ خوفاً معيّناً يُصيب الشخص السليم من مشاهدة أشخاصٍ ميّتين أو حيواناتٍ نافقة ، وذلك يعني أن الشخص لديه خوف من حالةِ أو من وضعية الميّتين ، وليس خوفاً من موتٍ قد يصيبه .
ويمكن تصنيف (قلق الموت) بأنه نوع غير طبيعي ومَرَضيّ أيضاً يستلزم وجود درجة من القلق المستمر الذي يؤثر على حياة الشخص القَلِق اليومية . ويتمثل فيه انخفاض (الأنا) لدى كبار السن ، وزيادة المشاكل الجسدية والنفسية عند ارتفاع مستوى هذا القلق لديهم ويرون أنفسهم قريبين من الموت . وقد يسبب (قلق الموت) الإحراج الشديد للشخص (القَلِق) بسبب ردة فعله تجاه إثارة مواضيع عادية جداً ، كالتبرع بالأعضاء أو التحدث عن أشخاص ماتوا فجأة ، أو أي موضوع له علاقة بالموت .
ويتصف (قلق الموت) بالعدوانية في بعض الحالات ، إذ يكون (قلق الموت) دافعاً عدوانياً نتيجة الخوف من التعرض للأذى ، وهو ما يمكن اعتباره النوع الأساسي من (قلق الموت) ويصيب الكائنات التي لديها مُستقبِلات متطورة للتفاعل مع الخطر الخارجي ضماناً للبقاء في مواجهة الخطر بأشكاله الكيميائية أوالفيزيائية على حدٍّ سواء . أما بالنسبة للبشر ، فإن (قلق الموت العدواني) تثيره مجموعة من الحالات التي تولِّد الشعور بخطر داهم قد يتهدد الحياة . فتكون ردة الفعل في هذه الحالة صدمات نفسية أو جسدية .. أو كليهما معاً . كما يحرِّك (قلق الموت العدواني) موارد المرء التكييفية التي تؤدي إلى تحفيز فعل المواجهة (المحاربة) بجهود نشطة تحارب الخطر ، أو تشكل الدافع إلى الهروب من مواجهة التهديد .
وكذلك ينشأ (قلق الموت) بصورته الشرسة عندما يؤذي الفرد فرداً آخر بأذىً جسدي أو ذهني ، ويكون هذا النوع عادة مصحوباً مع الشعور العميق بالذَنْب ، وهو ما يشجع ويدعم عدداً من القرارات التي يتخذها الشخص بعد إيذاء الآخرين . لأنه ينشأ من المعرفة الأساسية بأن حياة الإنسان لابد وأن تنتهي . ويعتبر هذا النوع أكثر أنواع (قلق الموت) قوة ، لأن أساسيات مايسمونه (قلق الموت الوجودي) تنشأ عن طريق التغييرات التواصلية والسلوكية للشخص (القَلِق) ، كانعدام عوامل التمييز بين الذات وبين الآخرين (الوعي الكامل للهوية الشخصية والقدرة على توقع المستقبل) ، كما يرتفع معدل الوعي حول الوفيات البشرية منذ وجود الحياة البشرية ، حين قام البشر بتصميم واستنباط آلية نفسية يتعاملون من خلالها مع مخاوف (الموت الوجودي) التي قد يثيرها (الإنكار) . لأن (الإنكار) يتم من خلال مجموعة واسعة من الآليات النفسية و العقلانية والإجراءات البدنية ، والكثير من هذه الآليات غير معترف بها علمياً ، لأنه يمكن التكيّف مع (الإنكار) بحدود معيّنة ، ولأن استخدامه المفرط يمكن أن يكون أكثر شيوعاً ومكلفاً نفسياً و عاطفياً .
ويكون (الإنكار) أصل هذه الأفعال (المختلفة) في كسر القواعد وتجاوز الحدود ، وكذلك التصرفات الجنونية بتوجيه العنف ضد الآخرين ، أو محاولة كسب ثروة وقوة غير عادية . وغالباً ما تحدث هذه الممارسات بسبب صدمة ترتبط بالقلق من الموت .
وعلى الرغم من أنها قد تؤدي إلى أعمال بنّاءة ، إلا أنها تؤدي في أغلب الأحيان إلى أفعال تُضِرُّ بالنفس وبالآخرين .
وقد قام العالِم السويدي (سيغموند فرويد) بطرح فرضيته :
“أن تعبير الناس عن خوفهم من الموت ما هو إلا تمويه لمصدر أعمق من القلق” .
لأن ما يخشاه الناس ليس في الواقع هو الموت بحدِّ ذاته ، لأنه ومن وجهة نظر (فرويد) :
“لا أحد يؤمن أو يصدّق بأنه سيموت .. ولا يتعامل العقل الباطن (اللاوعي) مع (الإنكار) أو مع الوقت ، علاوة على ذلك ، وإن ما يخشاه المرء لا يمكن أن يكون الموت بعينه ذلك لأن الشخص لم يجرّب الموت من قبل . أما الناس الذين يعبّرون عن مخاوف تتعلق بالموت ، فهم في الواقع إنما يحاولون التعامل مع صراعات الطفولة التي لا يمكنهم التصالح معها أو التعبير عنها لعواطفهم ومصطلح (ثانتوفوبيا) مأخوذ من الشكل اليوناني للموت المعروف باسم (ثانتوس)” .
كما قام (ايريك ايريكسون) بصياغة نظرية نفسية اجتماعية توضّح أن الناس يُحرِزون تقدماً من خلال الأزمات مع تقدمهم في العمر ، وتُفسِّرُ هذه النظرية المفهوم الذي يقول :
“أن وصول الشخص إلى آخر مراحل حياته فإنه يصل إلى مرحلة أسمها “تكامل الذات” . ويحدث “تكامل الذات” عندما يتصالح المرء مع حياته ويتقبّلُها كماهي . وأن وصول الشخص إلى مرحلة =الرشد المتأخرة= يجعله يستعيد شريط حياته بنظرة عامة حتى تلك اللحظة . وعندما يستطيع المرء إيجاد معنى لحياته فإنه يكون قد وصل إلى مرحلة (تكامل الذات) .
وبعكس ذلك فإنه عندما ينظر الفرد إلى حياته كسلسلة من الفرص الضائعة فإنه فلن يصل إلى مرحلة =تكامل الذات= هذه” .
ويُعتَقَد أن كبار السن الذين وصلوا إلى مرحلة “تكامل الذات” يكونون أقل عرضة للتأثر بما يسمى (قلق الموت) .
وقد أسند (ارنست بيكر) هذه النظرية إلى وجهات النظر (الوجودية) والتي بدورها قد أعطت نظريات (قلق الموت) بُعداً جديداً . وأن (قلق الموت) ليس حالةً حقيقيةً فحسب وإنما هو أعمق مصادر القلق لدى الناس . كما فسّر (القلق) بأنه يكون حاداً جداً إلى درجة أنه يولّد المخاوف والرهاب للفرد في حياته اليومية مثل – القلق من البقاء وحيداً أو المكوث في مكان ضيق – .
وبناءً على هذه النظرية ، فإن سلوكيات البشر اليومية تكون عبارة عن محاولات لإنكار الموت ولإبقاء ذلك القلق تحت السيطرة . وكلما طوّر الفرد معلوماته عن معدل الوفيات ، يصبح أكثر وعياً بحتمية الموت وأكثر استعداداً لملاقاته ، وإذا حاول كبح قلقه فإن طريقة الكبح هذه تؤدي عادة إلى التعميم فيما يخص المعتقدات الدينية والثقافية والميل إلى الحصول على الدعم الخارجي ، بدلاً من التعامل مع الخوف بعيداً عن المساعدة . ويتراوح الشعور بقلق الموت ، بين شخص وآخر بأنه عند البعض مجرد تفكير طبيعي في الموت ، وكونه عند آخرين رهاباً شديداً وأفعالاً مَرَضية متهورة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى